قصة "طلبات الاسياد"
لن ترى فى عينيه الان سوى نظرة باردة يمنح للجميع بلا استثناء ، نظرة اقرب للازدراء ، ليس لانه يكره الناس ، ولكن هو فقط فهم الناس ، فهم ان الناس تلتف فقط حول الناجحين ، حول الاقوياء ...
كان الكل يدعوه سابقا بالجبان.. الفاشل. حتى أخواته ، كان الاضعف بينهم ، الكل يسخر منه ، الكل كان يفسر طيبة قلبه على أنها ضعف فى شخصيته ، الى ان جاء يوم ، وكل شئ تغير فى حياته...
كانت شقتهم ، شقة الاسرة ، فى الدور الاخير من العمارة التى يسكن بها ، وكان على سطحها ، حجرة صغيرة مهجورة ، صعد ليذاكر بها ، هربا من اخواته الذين ظلوا يسخروا منه ليلة إمتحانه ، ومن فشله فى التخرج من الجامعة ...
صعد وهو متوجس خيفة من تلك الحجرة المهجورة ، التى قالت له أخته الصغيرة مرة انها رأت بها عفريتا.. جلس بجانب الطاولة القديمة الموجودة فى الغرفة ، محاولا المذاكرة ، ومحاولا التغلب على خوفه..سمع صوت باب الحجرة يفتح .. فى صوت صرير مزعج للاعصاب ، فتوجه للباب وأغلقه جيدا ، وعاد يحاول المذاكرة ، باعصاب ارق من بيت العنكبوت ،ومشدودة كاوتار الكمان، ولكنه فاجأة ، وجد شباك الغرفة يفتح ، ويدخل الهواء منه ويطير جميع الاوراق التى أمامه .. بيد مرتعشة يغلق الشباك ، ويجمع الاوراق المبعثرة ...
يحاول العودة للمذاكرة مرة اخرى فى اصرار ، فكلمات اخواته الساخرة منه ، ترن فى اذنيه وتالمه اشد الم .. انت فاشل .. انت عاجز.. انت راسب..تلك الكلمات تقتله .. وتهز ثقته فى نفسه ..فيجد باب الغرفة يفتح مرة اخرى .. ويظل الحال هكذا ، اذا اغلق الباب فتح الشباك وطير الهواء الورق ، واذا اغلق الشباك وجمع الورق فتح الباب ، وضاع الوقت بتلك الطريقة المرعبة ...
وظهر الصبح ، فصلى الفجر .. وذكر ربه ، ثم توجه لمكان الامتحان .. دون نوم ، دون افطار ، دون كلمة حلوة من احد ، ولو "صباح الخير"...
كان عليه ان يسير على قدميه ، ما لا يقل عن نصف ساعة ، ليجد وسيلة نقل توصله الى الجامعة ...
ولكنه ليختصر الطريق علي نفسه قرر السير فى الاراضى الزراعية .. وخاصة وان أعصابه كانت متوترة .. بسبب قلة النوم والاجهاد ، والنفسية المحبطة ، واصوات مرعبة سمعها طوال الليل .. والمصيبة الحقيقية انه لم يذاكر طوال الليل .. لم يتوقف لسانه عن ذكر الله ، طوال ما هو سارا، فى طريقه الواعر...
سمع صوت مكتوم.. لم يميزه فى البداية ، ولكنه استرق السمع جيدا ، فوجده صوت إمرأة تستغيث ..فتوجه الى مكان الصوت ، مفرقا الخضرة من حوله بكلتا يداه ...
نظر من مكان خفى ليرى ما يحدث.. وجد شئ اضاف رعبا جديدا الى جبل رعبه .. وجد رجل ضخم الجثة ، عظيم البنيان ، ومعه فتاة ، لا يزيد عمرها عن عشرون عاما ، بين يديه كحمامة بريئة يحاول ذبحها بالاعتداء عليها .. وكان كلما صرخت تلك الفتاة مستنجدة ضربها اكثر واكثر...
أراد مساعدة الفتاة وتخليصها من قبضة ذلك الوحش ، ولكن أوقفه الخوف ..فالرجل ضخم ، ويبدو قويا .. ظن أنه لن يقدر عليه..ثم فكر انه يجب ان يسرع ليلحق بالامتحان .. لا وقت لديه ليضيعه ، وقد يمر اى شخص اخر وينقذ الفتاة المسكينة .. هكذا فكر ، وهو يدير ظهره للفتاة والرجل ويهم بالانصراف...
ابتعد بضع خطوات ، فسمع الفتاة تصرخ مرة اخرى.. فلم يطاوعه قلبه وعاد ينظر مرة اخرى ، من مكانه الخفى ، حيث يراهما دون ان يروه ، فوجد الرجل تمادى اكثر فى ضرب الفتاة ، وهى تصرخ ، ووسط هذا تقابلت عينيه بعينى الفتاة ، فتوسلت له قطرات دموعها فى صمت ان يدافع عنها، وعن شرفها ...
حمل جذع شجرة ، وقرر بيد مرتعشة ونفس مرعوبة ضرب الرجل على رأسه ، وفعلا ضرب الرجل على رأسه ، فوقع من اول ضربة ، على الارض ،وتفاجأ هو من قوته ، التى اكتشفها توا فى تلك اللحظة ..فورا جذب الفتاة من يدها ، ليهربا ،بعيدا عن ذلك الوحش الادامى..ولكنه تفاجأ عندما اخرج الرجل مسدس من جيبه وبدء يهدده به ،هو والفتاة...
لا يدرى كيف جاءته الشجاعة وتصارع مع الرجل ، محاولا نزع المسدس من يده .. كان كانه فى حلم لم يستيقظ منه الا على صوت طلقة مكتومة خرجت من المسدس متوجة الى قلب الرجل .. فوقع الرجل على الارض ميتا فى الحال...
اخذ الفتاة التى كانت تقريبا تنزف من معظم اجزاء جسدها ، والتى لم تقوى على السير ، فاضطر لحملها ، وهربا بعيدا .. ثم وضعها فى اول سيارة تاكسى لتعود لبيتها ، أعطاها كل ما كان يحمل من جنيهات قليلة ، لتدفع للتاكسى عندما تصل لبيتها امنة ، وطلب منها ان تنساه وتنسي ما حدث ولاتذكره لاحد...
كان من المستحيل ان يذهب بعد ما حدث الى الجامعة وأداء الامتحان .. ولكنه لم يكن حزين من أجل ذلك ، فهو فخور بنفسه ، لقد قتل رجل ضخم لتوه ، اذن هو ليس انسان جبان .. هو يقدر ان يفعل اى شئ فقط لو إراد..بل كان سعيد لانه بطل انقذ شرف فتاة لا يعرفها ...
ومنذ تلك الليلة ، صار انسان اخر .. انسان جديد ، له شخصية جديدة .. شخصية قادرة.. وأختفت شخصيته العاجزة ...
كانت المعجزة الحقيقية ، عندما اكتشف ان امتحانه ، الذى لم يذهب ليحضره ، تم تأجيله ...
وتمضى السنوات،ويستره الله ويظل السر محفوظ ،والقضية تقيد ضد مجهول ، ويحمد الله على ذلك كثيرا ، ويظل محتفظ بالمسدس كاغلى تذكار على قلبه ، والدليل على شهامته وإنسانيته .. ويتحول الشاب الفقير العاجز الجبان ، الى مهندس ناجح ورجل اعمال ثرى ، فقط لانه امن بان الله لا يغير ما بقوما حتى يغيروا ما بانفسهم ...
ولكنه لم يتزوج ، رغم اقترابه من سن الاربعين ،و تحقيقه كل احلامه بل وما لم يحلم به او يخطر على باله اصلا ، وذلك لانه عرف الناس عن قرب ..
فالناس تريد الناجح.. الثرى ..القوى..اما الطيب ، قليل الحيلة ، لا مكان له بينهم...
وعندما تراه الان لن ترى فى عينيه سوى نظرة ازدراء ..وتعبير مرارة ..فقد نفذ طلبات الاسياد ليكون محل احترام..او نفذ طلبات البشر ليكون محل احترامهم وحبهم ، لقد جمع المال والثروة والشخصية القوية...
بقلم/مى الحجار
"كاتبة هاوية"