قصة "الحلم"
لم يكن الحب من حقها يوما،طالما ردد من حولها هذا على مسامعها ،وان كانوا لم يقولوا ،لها هذا صراحة .. وكل شئ حولها .. كل كلمة .. كل تصرف من الاخرين .. حرم عليها الحب .. لانها ببساطة عمياء .. لا ترى ولكن تشعر .. لديها فى قلبها طاقة حب هائلة ... طاقة حب كالتى فى قلوب الانبياء فقط...
وكانت راضية تماما .. رتبت حياتها على ذلك ،تعودت ان لا تعتمد على احد فى حياتها .. ووصلت فى التعليم الى درجات علمية ،يعجز للوصول لها ،من هو بكامل صحته ، كانت معتادة ان تبهر الناس ،بكل تصرفاتها ، الى ان اكتشفت يوما ،فن النحت ،فحاسة اللمس عندها تصل تقريبا للكمال ،فمن يملك الاحساس مثلها ، وكانت تمارس تلك الهواية من باب التسرية على قلبها الوحيد ،فهى وبرغم انها لا ترى ،كانت تعيش وحدها ،متحملة مسئولية نفسها واحيانا غيرها...
فقد تزوج اخيها الوحيد ،وانتقل للسكان فى مدينة بعيدة قليل عن المدينة التى تسكن بها ،وماتت امها ..وايضا ابيها، كان قد مات وهى فى الخامسة من عمرها .. ولم يعد لها سوى الله..وما أجمل ان تكون مع الله ،يرعاك يدبر لك امرك ،وايضا يدللك ..انه الله ،اله الرحمة..سبحانه...
كانت قد ورثت عن امها شئ غريب ،وهو رؤيت احلام ،تتحقق ،فما تراه اليوم فى حلمها ،يتحقق فى اليوم التالى ،او حتى يتحقق ،بعدها ،ولو بعد اعوام ..وكانت تلك علامة واضحة على انها انسانة رقيقة جدا ،شفافة الروح ...
لم تكن تقول ذلك للناس حتى لايفزعوا منها ،او حتى لا يصدقوها .. واعتبرت هى ذلك نعمة من الله ،انه نوع من البصيرة ...
كان وجهها صبوح جدا ،مريح للاعصاب ،وشكل عينيها ،رائع ،الجاهل بحالها يحسبها تبصر .. امام من يعرف الحقيقة يبكى لحالها ...وبرغم رقتها هذة ،لم تكن تظهر ضعفها لاحد ابدا ،حتى لو كانت تحتضر .. تشكى وحدتها وضعفها ،وهوانها على الناس، لله فقط .. اما امام الناس ،فقد يخاف منها البعض من قوة شخصيتها ،التى تفننت فى صنعها لنفسها من المعلومات ،التى تعلمتها من الكتب التى قرائتها ...
وفى احد الايام ..حلمت حلم ،غريب لم تفهمه وقتها ،او حتى خافت ان يكون ما فهمته صحيح ..
فقد رات نفسها فى قبر مظلم ..غير قادرة على التنفس فيه من ظلمته ووحشة الوجود به ،واذا بشئ رطب فى يدها ،وعندما تفحصت ذلك الشئ ،اكتشفت انه قطعة من الصلصال التى تنحت بها تماثيلها ،واذا بقطعة الصلصال تلك تتحول فاجأة الى كرة من النور ،تنير لها ،ذلك القبر الموحش،
ويذهب عنها الضيق والظلام ..رويدا..رويدا ..
ثم تسمع ،صبى ،يقول لها فى لهجة مطمئنة :
"انتظرى هنا ،سيدى قادم ليقراء لك القراءن بصوته ..."
واستيقظت من حلمها ،وجسدها النحيل يرتعش ..من هو هذا "السيد" ..القادم ..من هو ..فالكل تخلى عنها ،ونسي امرها .. ولم يعد فى حياتها سوى عبادة الله والكتب والنحت مصدر فرحها الوحيد ...
وفى احد الايام وبينما هى عائدة ،الى بيتها تحمل ،كيس به العديد من الاغراض ،فاذا هى تصطدم ،بشخص فى طريقها ،ويقع منها كل الكيس الضخم ،بكل محتواياته الكثيرة..ويصطدم ايضا انفها برائحة عطر ساحر ،لا يضعه الا رجل مميز ،فيجمع لها ذلك الرجل ، أغراضها فى لحظة ،ويعتذر لها فى ادب جم ... وترفض هى مساعدته ،فى ايصالها بيتها ،بعد اكتشافه فى صمت انها لا ترى الطريق...
ولم يطاوعه قلبه ،على التخلى عنها ،بعد رفضها مساعدته لايصالها ،بل مشى ورائها ، حتى وصلت بيتها ...وبينما هى تصعد سلم بيتها ذى الدرجات القليلة ،ومن كثرة ،تفكيرها وشردها ،فى رائحة العطر التى تنشقتها من قليل ،وقعت للمرة الثانية ،واذا به يلتقتها للمرة الثانية ، وشعرت فى تلك اللحظة ،ومن طريقة ضمه لها ،كم هو انسان حنون ،فقد تعلمت ان تميز ،كل شئ ..فقط من خلال لمسه...
ومرت الايام ..واصبح صديقها ،يطمئن عليها ،تقريبا يوميا بالهاتف ، فقد خطفت رقتها وعنادها ،قلبه الطيب ،حتى انه اعتاد ان يخصص ،يوم فى الاسبوع يخرج معها فيه ،فى اى مكان تختاره .. وكم كانت هى سعيدة بتلك الصداقة البريئة ، فقد نسيت من مدة معنى ان يكون الانسان سعيد وقادر على الابتسام ،كالاخرين...لقد حقق لها حلمها ،فى فعل ابسط الاشياء ،التى كانت محرومة منها ،كالذهاب للمسرح ،والسينما ،ومشاهدة فيلم رومانسي ،برفقة ،شخص ،مريح الوجود معه ...
وقال لها يوما فاجأة دون مقدمات :
"احبك.. واريد الزواج بك .. من كثرة حبى لك ،اتمنى ان ..."
قاطعته مرعوبة مما سمعت منه :
"من فضلك .. انا لا اريد شفقتك .. هذا ليس حب ..هذا فقط احساس بالشفقة،تجاه فتاة عمياء مثلى .. من فضلك وفر شفقتك .. انا ،لا اريد الزواج بك ،او بغيرك ..احتفظ بى كصديقة .. او اخر من حياتى.. هذا وحده خيارك..."
سالها بقلب يعتصر الم :
"لماذا؟؟؟....."
سيطرت على نبرة صوتها ،حتى يخرج كلامها،بصوت عادى ،غير مصحوب ببكاء ،واجابته:
"انت لديك كل شئ ..انت شاب وسيم ..ضابط جيش ..عائلتك كريمة ..حتى انت طيب القلب ،خفيف الدم ،اذكى من قابلت من الرجال ..من الظلم ان تربطت نفسك بمن هى مثلى.. انا كل الناس تخلوا عنى ..حتى اخى نسي امرى.. انسي امرى ..فحتى الصداقة الان بيننا ،لم تعد تنفع.. اعتذر عن طلبك..."
ثم قامت من مكانها ،مسرعة ،تتلمس طريقها فى حذر ،واوقفت اول "تاكسي" ،وعادت الى بيتها .. وكان شئ ،مرعب يطارد ..نعم ،ان فكرة تعلقها ،بانسان لن يكون لها مرعبة جدا بالنسبة لها...
مرت الايام ببطئ ،غير محتمل على قلبها ،الذى اكتشفت انه ،رغم حذرها الشديد ،وقع فى الغرام .. وتحملت ولم تتصل به ،وهو ايضا لم يتصل بها ..فقد اختفى من حياتها تمام ..
من شدة الالم الذى شعرت به من فراقه ،تمنت الموت الف مرة ،وطلبته من ربها ..فهى، بدونه تحتضر.. وبرغم حبها العظيم له ،لم تتصل به ،فهى تحبه بعقلها ،اكثر مما تحبه بقلبها ..ومصلحته فى البعد عنها كما تتصور..وكما اقنعت نفسها ...
وبينما هى جالسة وحدها ،فى حالة يرثا لها ،رن جرس ،هاتفها ،وللحظة ،تمنت ان يكون هو المتصل ،ولكن كان من على الهاتف احدى صديقاتها ، والتى قالت لها فى وسط حديثهما ،انه هناك استاذ فى كلية فنون ،شاهد التمثال ،الذى يوجد فى بيت صديقتها ،والذى من صنعها ،وانه يريد ان تشارك معه فى احد معارضه ..واخبرتها ..انه مهتم جدا باعمالها ،ويرى انها ذات طابع انسانى فريد...
وتلك فقط كانت البداية ..مشاركة بسيطة فى معرض ،ثم.. بعد ذلك.. معارض تقام لها وحدها ،ثم معارض لها فى دول اروبية ،الناس فيها مبهورين بفنها الذى سار ،عالميا ..فى اقل من عامين...
وبينما هى تقف يوم افتتاح احد ،معارضها فى روما ..عاصمة الفن والجمال .. اذا بنفس العطر ..الاخاذ يحتل انفاسها ..ويزلزل كيانها،وتعرف قلبها المغرم على صاحب العطر فورا ،وكانه كان ينتظره ..اقترب منها ..وهمس لها :
"انت الان انجح منى الف مرة ،انت فنانة عالمية ..الكل فقط يحلم ،بمصافحتك ..وانا ..لا حول لى ولا قوة ..مجرد انسان عادى.. انسان فقط قلبه مغرم بك ..ولازالت اريد الزواج بك .. فهل تتنازلى ،وتقبلى؟!...."
طار قلبها فرحا ،فهى الان فقط يمكنها ان تقبل حبه .. فقالت له :
"اقبل واتمنى.. لو تدرى كم عذبنى بعدك ..بدونك ،تصبح الحياة كابوس ..لانهاية له..."
وتزوجها ..ولم يقل لها ،انه لم يفارقها يوما ،وانه السبب فى نجاحها ،وما وصلت اليه ..فهو من بحث عن ، صديقتها ،وارسل لها ،صديقه ،الاستاذ الجامعى ،والذى اشركها فى معرضه..لم يقل لها ..انه سبب تحقق حلمها ،فى ان تكون جديرة بحبه لها..هذا هو الحب...
بقلم/مى الحجار
"كاتبة هاوية"
--------------------------------------------------
------------------------------------
-------------------------