قصة "عطرها"
فى ليلة كان القمر فيها كالعرجون القديم ، والنجوم مرصوصة حوله ،كملك وسط حاشيته ..كان يجلس وحده يتأمل فى السماء..يتأمل حاله ، لقد فعل كل شئ فى حياته فقط ليكون انسان ناجح ..أنسان جدير باهتمام وتقدير الاخرين..عمل بجهد ، درس بجهد ..لم يكتفى بشهادة جامعية فقط ، بل سعى فى طريق الدراسات العليا ، ومع ذلك أنتهى به الحال مجرد حارس آمن فى شركة أستثمارية كبرى ..وكم يؤلم قلبه أن يكون مديره فى العمل ، أقل منه فى الدرجة العلمية ، ويتحكم به كعبد عنده..وهو يتحمل كل هذا فقط ليكون يوما أنسان أفضل...
ملاءت دموع الحسرة عينيه ، عندما نظر لحاله ..وإلى المكان البسيط الذى يعيش فيه وحيدا ، بعد زوج أخته الصغرى ، والتى دفع فى زواجها أخر جنية كان يملكه .. فقط ليسعدها ، فهو، كل أسرتها...
أما هى ..فقد زهدت كل شئ ..فالانسان عندما يصل لمرحلة معينة من الغنى أو بمعنى أدق الثراء الغير طبيعى ، يزهد كل شئ ، حتى قد يزهد الطعام والشراب ..فوالدها ، كان يملك تلك الشركة الكبيرة التى يعمل بها ، من ضمن العشرات من الشركات والمصانع التى يملكها حول العالم...
لقد ملت معاملة الناس لها كملكة ،طوال الوقت..ملت النفاق والتصنع .. ملت الابتسامات الزائفة فى وجهها..وكأن الناس مجبرون من أجل أموال والدها ونفوذه معاملتها بتلك الطريقة التى تدفعها للجنون ..فما أجمل أن تجد من يحبك لذاتك ، ليس لانه لديك أو لانك تستطيع أن تفعل...
طبيبها النفسي نصحها بالتغير ..نصحها أن تخرج للحياة قليلا ، ولو فى مغامرة محسوبة ، ولو بالسفر لمكان لا أحد يعرفها فيه ...
عاد يتامل نجمات السماء ..وطارة تدمع عينيه ، كطفل وحيد يتيم ، وطارة يضحك من سخرية الدنيا منه ، ومن أصراره على النجاح ، وأصرار الدنيا على أغلاق أبوابها فى وجهه ،كما يتصور ..وفكر أنه عليه أن يثور على حاله ، يجب أن يبداء بالثورة فى وجه مديره ، ذلك الرجل البدين المتسلط ، صاحب أسخف أبتسامة فى الكون ، فابتسامته ، تشبه ، أبتسامة "بومة" حمقاء...
فى اليوم التالى كان من الطبيعى ، أن يحدث شجار بينه وبين مديره الذى أصر على تحميله فوق طاقته ، وتكليفه بعمل زميل له ، أدعى المرض وغاب عن العمل..وأنتهى الامر ، بخروج الامر من يده ، وقول ما فى قلبه لذلك المدير المتسلط ..وكان فصله من العمل النتيجة الحتمية لذلك الموقف الرهيب..ولكنه وهو يغادر عمله ، كان على وجهه أبتسامة رضاء..فقد أخذ حقه من ذلك الرجل المتنمر للمرة الاولى ، ورد عليه الاهانة بالاهانة...
أصطدم بها وهو خارجا من الشركة.. حيث تعودت مؤخرا ترك سيارتها الفارهة ، الفاخمة ، وأستعمال التاكسي كوسيلة مواصلات ، طبعا دون علم والدها..فوجدته يصرخ فى وجهها الجميل ، ويطالبها بالانتباه ..وكم فرح قلبها بهذة الصرخة ، أخيرا هناك شخص على سطح كوكب الارض يعاملها بصورة طبيعية ، دون تمثيل أو تكلف ، وأبتسمت فى وجهه ، ردا على تلك الصرخة ..أبتسامة فكت كل طلاسم الحزن عن وجهه ، وربما عن قلبه ..فلانت ملامحه ورد لها الابتسامة ثم أعتذر لها ، وسألها فى خجل من تصرفه :
"هل أنت بخير؟....."
أخر شخص سائلها هذا السؤال كان طبيبها النفسي ، والذى لم يفعل ذلك ، سوى لانها مريضة عنده ، تدفع له الكثير..وفرح قلبها بهذا السؤال ، وأجابته بابتسامة واسعة ، وهى تنظر له مبهورة ، وكانها أول مرة ترى رجل :
"الحمد لله ..أنا بخير........."
فعاد يقول لها ، وهو يجذبها من يدها بعيدا عن السيارات التى تمر مسرعة فى الشارع :
"أعتذر لك مرة أخرى..ولكن يومى كان كارثى ..لقد فصلت توا من العمل..وقريبا جدا ساكون أحد المشردين الهامين على وجوههم فى الشوارع بلا ماؤى ..بلا أى شئ............"
وبرغم مرارة ما قاله ،إلا أنه أنهى كلامه بابتسامة واسعة..لا تعرف لماذا هى الاخرى غرقت فى الابتسام ..ياإلهى ، لقد فتح لتوه أمامها عالم لم تعرفه ، عالم تقراء عنه فى الروايات وتراه فى الافلام فقط.. وتعلق قلبها بوجوده ..فقد تمنت أن لا تفارقه ، لقد حدث شئ بداخلها ، كما حدث زلزال بداخل قلبه ...
لقد أرادت أن تخترع سبب يبقيها ،معه لفترة أطول من الوقت ، فقالت له :
"إذا كنت الان بلا عمل ، فانا يمكننى أن أجد لك عمل ..."
ففرح جدا بعرضها الغير متوقع هذا ، وقال لها :
"لا يمكننا التحدث هكذا فى الشارع.. يمكننا عبور الشارع والجلوس فى تلك الحديقة العامة ........"
وأشار بيده الى الحديقة ، الموجودة فى نهاية الشارع ...
منذ عبرت أقدمهما بوابة الحديقة ..وكلا منهما لم يتوقف عن الكلام مع الاخر..وكانها ليست المرة الاولى ، التى يلتقيا فيها ..وكان كلا منهما وجده ما كان ينقصه لتعرف السعادة طريقها أخيرآ الى قلبه..أى أنه غرام من التصادم الاول...
وسط الكلام مازحها قائلا:
"افكر بسرقة خزانة الشركة التى كنت اعمل بها ، أنتقاما مما فعلوه بى وفصلى بتلك الطريقة المهينة ، وأنا أعرف كيفية التسلل داخل الشركة بمنتهى السهولة ..لدى كل الارقام السرية للبوابات ..وصاحب الشركة غنى جدا ، لن يفرق معه المال الموجود بالخزانة ، كثيرا............"
وأتسعت أبتسامته ، ولكنها لم تبتسم ، فهو يفكر بسرقة شركة أبيها ، أى سرقتها هى ...فنظر لها وقال ممازحا أيها :
"هل تحبى الاشتراك معى ..وساعطيك النصف ، يبدو أنك مسكينة مثلى........."
وعاد يبتسم مرة أخرى ، فكل ما قأله لم يكن أكثر من مزاح ، قلب يائس ...وعندما لاحظ صمتها تابع كلامه :
"حقا لا أدرى ماذا أفعل ..فحياتى كارثة بكل المقاييس ....."
كان سيكون ردها عنيفا ، وتعرفه بنفسها ، وأنها أبنة صاحب الشركة التى يريد سرقتها ، ولكنها تذكرت كلام طبيبها النفسي وأنها تحتاج لشئ جديد فى حياتها أو مغامرة محسوبة ، فصدمته بقولها :
"يمكننى الحصول على نسخة من مفتاح الخزانة الخاصة بالشركة ، فانا أعمل سكرتيرة شخصية لابنة صاحب الشركة ، وأنت تعرف كيفية الدخول بسهولة ، نحن نحتاج المال ، وهم لديهم الكثير منه ، ما رأيك؟........"
فتعجب من كلامها ورد عليها بابتسامة واسعة :
"أنا كنت أمزح........."
فقطاعته بملامح جادة :
"وأنا لا أمزح ..صدقنى الموضوع فى غاية السهولة ، وهذة فرصة عمرنا ، أنا محتاجة المال جدا....."
وسكتت لحظة ثم تابعت كاذبة ، بنظرة براءة مصطنعة :
"أمى مريضة جدا ، وتحتاج عملية جراحية عاجلة أو ستموت الما ..من فضلك ساعدنى..........."
كل الحيل مارستها عليه ، حتى أقنعته بالسرقة ، وفى ظل ظروفه الصعبة التى كان يمر ، كان تقريبا مخدر العقل ، ومفتون فقط بنظرات عينيها رائعة الجمال ..وفى يوم تنفيذ الخطة ، قابلها فى مكان بجوار الشركة قبل الفجر بساعات قليلة ، وكان يحمل معه حقيبة لوضع المال بها ..كل شئ كان سهل ، فقد أعدت كل شئ ، وأتفقت مع الحرس ، على عدم التدخل فى شئ ...
دخلا الشركة بسهولة..وصعد الى مكتب والدها ، ثم فتحت هى الخزانة ، بمفتاحها الاصلى ، والذى أخبرته أنه نسخة مزيفة..ثم جمع هو المال ، بيد مرتعشة ، وأعصاب مشدودة كاوتار الكمان .. فتلك هى المرة الاولى التى يسرق فيها أى شئ على الاطلاق...
ركبا السيارة التى أستعارها من صديق له ..وعندما وصلا لمكان آمن بعيدا ..أوقف هو السيارة ونظر لها ، كطفل منتشئ من الخروج عن أوامر معلمته للمرة الاولى ، ثم غرق فى الضحك ، وغرقت معه ، فهى من فترة لم تشعر بالاثارة والمرح هكذا..وقال لها :
"للمرة الاولى فى حياتى أخذ حقى من شخص ظلمنى..هذا المال أقل تعويض على طردى من الشركة بتلك الطريقة ، بعد أن تحملت فيها ما لا يتحمله بشر........."
وفأجاة ماتت ضحكتها ، ونظرت له بجدية ، وقالت له بصوت يقطر حنان :
"ولكن هذا المال ليس تعويض لك .. هذا مال مسروق..حرام ..ليس من حقنا........"
فرد عليها متعجبا من كلامها:
"ماذا تقولى..أنت الان تقولى هذا..فقط أنظرى الى شكل "الدولارات".. ولن يكون هذا رايك........."
ثم جذب حقيبة المال ، الموجودة على الكرسي الخلفى فى السيارة ، وفتحها أمام عينيها ..وتابع كلامه لها :
"أنا عند وعدى.. نصف المال لك..مع حبى وعرض زواج ..يربطك بقلبى إلى الابد...وأعدك أننا بعدها لن نفعل أى شئ خطأ مرة أخرى..وأنما سنقوم بعمل مشروع صغير لنا ، ونتزوج وننجب أطفال..و..........."
فقالت له بصراخة مكتومة:
"أنا..أو هذا المال الحرام..حبنا..أو حقيبة "الدولارات"....."
فرد عليها بصوت مذبوح خجلا :
"أنا أحبك ..نعم..ولكن هذا المال نحن نحتاجه......."
فعادت تقول له"أنا أم المال........"
فرد عليها"المال..يعنى عدم أهدار كرامتى مرة أخرى......."
لقد فهمت قصده ففتحت باب السيارة ونزلت منها ، والدموع تزحف على وجنتيها العاجية ، ومشت بعيدا عن السيارة ..بخطوات كسيرة ، مهزومة... بعد أن أختار المال ، بدلا من حبها...
كان فقط يؤلمها أنها ستعود مرة أخرى حياتها المخملية ، فى قصر والدها ،الذى يشبه القلعة ، لتحيا مرة أخرى حياة خالية من أى حياة..وبكى قلبها للمرة الاولى فى حياتها ، فهى للمرة الاولى تعرف معنى أن تفتقد أنسان بخروجه من حياتها ، وكانها ملاك نزل من الجنة ، لارض البشر ، ليعرف الالم لاول مرة فى حياته...
عادت اليه ، وقالت له :
"ماذا لو مت الان ، هل تريد أن تقابل الله ،وأخر شئ فعلته هو هذا ؟!......"
وأشارات الى المال الذى أخذاه من خزانة الشركة...
الحب سلعة..لا يرغب الانسان بشرائها ،إلا عندما يتذقها..وهو فتلك اللحظة لم يملك سوى أن يهجر أى شئ فقط ليبقى مع أنسانة بتلك الرقة ، فذكر الله على لسانها كان له وقع السحر ، على نفسه ، فقال لها :
"وكيف نعيد المال ؟!...."
فقالت له :
"ساقول لك شئ..ولكن عدنى أن لا تقتلنى بعده...هل أعصابك بخير وأنت مستعد ......"
وضحكت وتابعت كلامها :
"أولا :أحبك..ثانيا: نعم أريد الزواج بك..ثالثا: أنا أبنة صاحب الشركة ، وهذا المال تقريبا مالى.........."
بعد فترة من العلاج النفسي ، أستطاع ، أن يتزوجها ويسعدها إلى أخر يوم فى حياته...
بقلم/مى الحجار
"كاتبة هاوية"
*********************************